حروب داخل حرب مُعلنة.. بعضها تسيل دماؤها في صمت

 

 

د. عبدالله باحجاج

قطاع غزة، الذي يبلغ طوله حوالي 41 كيلومترًا، وعرضه يتراوح بين 6 كيلومترات إلى 12 كيلومترًا، بمساحة إجمالية 360 كيلومترًا مربعًا فقط، وبتعداد سكان يُقدَّر بنحو 2.2 مليون نسمة، يشنّ عليه الصهاينة عدة حروب وجودية، وليست حربًا واحدة كما هو مُعلَن؛ فالعالم لا يرى غالبًا سوى الصواريخ والقنابل والمدافع والقوات التي تدكّ هذه البقعة الصغيرة بمحتواها الديموغرافي الكبير منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن.

داخل حرب الإبادة الديموغرافية والتدمير الجغرافي الشامل عدةُ حروب على أهل غزة، لعلم الصهاينة أنهم بحربهم الخشنة المُعلَنة لن يتمكّنوا من تصفية مليوني إنسان في غزة، لا بالقصف ولا بالتجويع ولا بالتهجير القسري. ويؤمنون أن من سيتبقى منهم بعد الحرب والتهجير -إذا ما نجحوا افتراضًا- هم الأخطر على مستقبل كيانهم الزائل لا محالة؛ لأنهم سيكونون -صغيرهم وكبيرهم- نسخة جديدة من مشاريع جهاد أكثر إيلامًا لهم، وأكثر إصرارًا واستعدادًا لتدمير كيانهم.

لذلك يشنّ الصهاينة على غزة عدة حروب ناعمة وخشنة معًا، حرب قذرة متزامنة مع حرب إبادتهم المعلَنة، تكشف بجلاء خططهم المستقبلية. وهدف هذه الحروب الموازية تدمير المنظومة الأخلاقية والقيمية وبُنياتها التحتية، عبر عدة مسارات؛ أبرزها:

  1.  حرب اغتيال المؤطرين والمفكرين والمؤثرين من دُعاة وعلماء ومثقفين في غزة، وصل عددهم ـوفق آخر الإحصائيات- إلى 233 فلسطينيًا. كما لم تسلم المساجد والمدارس منها، وحتى المسيحيون؛ فقد اغتيل منهم 20 مسيحيًا إلى جانب تدمير بعض كنائسهم. وهذه حرب على المرجعية الأخلاقية والروحية لغزة؛ فاستهداف هذه المرجعية عملية ذات أبعاد استراتيجية واضحة، فهي وراء ترسيخ القيم الوطنية والدينية (الجهادية) لأهالي غزة، وهذا يفسّر صمودهم التاريخي وصلابة ومتانة تماسكهم الاجتماعي المنقطع النظير. ومن هنا يهدف الصهاينة إلى تصفية قادة الفكر والتأطير لدواعي "المرحلة التالية".

 

  1.  حرب المخدرات على غزة، وهي حرب قذرة لا يمكن فصلها عن الحرب ضد المؤطرين والمفكرين والمؤثرين. فالسيناريو المستهدَف أنه في الوقت الذي ينبغي فيه القضاء على البُنى الفوقية المؤثرة، ينبغي أيضًا استهداف البنية الديموغرافية التحتية لتفكيكها حتى تصبح مهيّأة لنجاح "المرحلة التالية". لذلك يشتغل الصهاينة على المخدرات كسلاحٍ مدمّرٍ يستهدف الشباب والمراهقين وحتى الأطفال، معتقدين أنهم سينجحون في صناعة شعب جديد لا يحلم بالتحرر والتحرير، وغارق في مستنقعات المخدرات. وحرب المخدرات ليست جديدة على غزة، بل قديمة، لكنها كانت تفشل لوجود سلطة مدنية تكافحها بإجراءات وعقوبات صارمة كالإعدام. غير أن الصهاينة يستغلّون هذه المرة فراغ السلطات في غزة لانشغالها بالحرب الوحشية.
    وقد أجرت صحيفة إندبندنت العربية تحقيقًا أوضحت فيه أن عمليات تهريب المخدرات إلى غزة تتم عبر استخدام طائرات مسيّرة متوسطة الحجم، وتهريبها في أكياس الطحين (الدقيق) استغلالًا لحاجة الأسر للمواد الغذائية في ظل الحصار والتجويع وإغلاق كل الحدود في وجه غزة. ويهدف الصهاينة من حرب المخدرات إلى صناعة "مافيا" داخل غزة، قوة تُجنّد العملاء وتصنع مجتمعًا مدمنًا، اعتقادًا منهم أن ذلك يخدم "المرحلة التالية".

 

 

  1.  حرب ضد الصحفيين؛ وهي حرب أصبحت معروفة، ووصل عدد الشهداء منهم إلى 238 صحفيًا، وذلك بعد نجاح هؤلاء الأبطال في نقل الحقيقة المجرّدة من ميادين القتال، والتي كشفت الوجه القبيح للصهاينة أمام الرأي العام العالمي، ورفعت التأييد الشعبي لغزة. لذلك هُم مستهدفون من هذه الحرب؛ لأن الكلمة والصورة أصبحتا من أكبر الأعداء الاستراتيجيين للصهاينة، وهما أخطر من أي سلاح، ولذلك يستهدفونهما الآن.

هذه الحروب تتم بأدوات ناعمة وخشنة قذرة في وقت واحد، وتحت غطاء حرب إبادة بشرية شاملة وتدمير لكامل مقومات الحياة في غزة، بُغية تحقيق الأحلام المستحيلة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومجرم الحرب بنيامين نتنياهو. وهما لا يزالان يحلمان بها، وقد نشر ترامب أحلامه في غزة بواسطة الذكاء الاصطناعي، بعد تصوّر تدميرها وإفراغ أهلها منها وإعادة بنائها؛ حيث نشر صورة تُظهره مع نتنياهو على شواطئ غزة يتشمّسون، وفي الخلفية ناطحات سحاب باسمه، وشوارع يُنصب عليها تماثيله. إنهم يحلمون من هذه الحروب القذرة أيضًا بإقامة ما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى". وقد اعتبر نتنياهو ما يقوم به من إبادات علنية وسرية "مهمة روحانية وتاريخية" لإقامة هذه الدولة المزعومة التي رسم حدودها لتشمل عدة دول عربية وخليجية. وكان أول من تحدّث عن "إسرائيل الكبرى" هو ترامب نفسه حين قال: "إسرائيل مساحتها صغيرة، والجغرافيا ظلمتها".

إنهم يحلمون في وضح النهار؛ أحلام يقظة وانغماس للعقل في الخيال والتصورات أثناء الاستيقاظ. لكن بهذا الغباء السياسي، الذي يجعلهم يقفزون فوق التاريخ والمسلَّمات الدينية في كل الديانات السماوية، سيصحون فجأة على أحداث جسام في غزة تُعيدهم إلى الواقعية السياسية. وقناعاتنا تنطلق من إيماننا المطلق بأننا أمة منصورة لا محالة، وأن الجهاد والرباط سيظلان قائمَين إلى يوم القيامة في فلسطين وعاصمتها القدس. واستدلالاتنا هنا كثيرة، منها ما هو بنص قرآني، حيث يقول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39).

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلّا ما أصابهم من لَأواء حتى يأتيهم أمر الله" (رواه أحمد 22320).

وحديث آخر، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "طوبى للشام، قالوا يا رسول الله ولِمَ؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها" (رواه الترمذي 3954 وصححه الألباني). وكما يعلم الجميع، فإن فلسطين بما فيها القدس جزء من الشام.

وبحكم هذه المرجعيات الإيمانية الصلبة، فإن الجهاد باقٍ إلى يوم القيامة. وليعلم الصهاينة والأمريكان ومن معهم في العلن والسر، أن حروبهم فاشلة لا محالة، وأن ما يجري في غزة هو أكبر اختبار للبشرية المعاصرة؛ فغزة باتت معيارًا للخير والشر، ومفترق طرق لأنظمة التواطؤ والصمت على الإبادات. ولن تنجح فيها الحروب الأخلاقية، ولا المخدرات، ولا حروب إبادة صُنّاع الفكر والأيديولوجيا؛ لأن أهالي غزة جميعهم أصبحوا من نتاج التأطير وتحولوا إلى مؤطِّرين. ووفق التقديرات، أوضحت تقارير أن هناك 50 ألف حافظٍ للقرآن الكريم عام 2023، ومئات الأفراد يشاركون في فعاليات دورية لسرد القرآن الكريم في جلسة واحدة، مثل مشروع صفوة الحفاظ الذي ضم 1471 مشاركًا، لذلك لن تنجح حروبهم الأخلاقية والروحية في غزة.

ولن تتوقف هذه الحروب الأخلاقية داخل جغرافية غزة، وإنما ستمتد إلى كل الجغرافيات التي وقفت قواها الناعمة بقوة مع غزة وأحدثت الفارق المعنوي الداعم لها. وقد أوضحنا ذلك في مقال سابق؛ حيث إنه لكي يمتد السرطان الصهيوني في المنطقة، فلا بد من محاربة المنظومات القيمية والأخلاقية ومصانعها، لأنها ستقف ضد هذا الامتداد، والصهاينة يعلمون ذلك، ومن هنا نحذّر من القادم؛ فأي دولة ستنصاع للضغوط الصهيونية والأمريكية للقضاء على مصانعها الأخلاقية ستنزلق إلى فتن داخلية "وجودية"، خاصة الدول المتجذّرة.

 

الأكثر قراءة